بوق الموت (طه)..!

2010/03/15





التدوينة الثانية
بوق الموت (طه)


كنت في برلين الألمانية لأحضر المعرض التشكيلي السنوي لأستاذي العزيز طه الصعيدي (صاحب الفضل بعد الله في تبني موهبتي التشكيلية)
والذي تعرفت عليه في موسكو عندما كنت أدرس البكالوريوس بعد أن زرت معرضه وأبدا إعجابه بتفسيري للوحاته ليتبناني فنّيا ولأكون تلميذه المخلص.

كان من أبرز زوار المعرض المستشارة الألمانية آنجيلا ميركل ورئيس الوزراء التشيكي يان فيشر، وبما إنني تلميذه المخلص فقد تم تقديم اسمي من ضمن كبار زوار المعرض.

أبرز اللوحات كانت معنونة باسم (ظل أنثى)  -كانت تعبّر عن أنثى لديها ثلاثة ظلال لطفلين وطفلة داخل دموع مغلفة باللون الأبيض- والتي بيعت بمبلغ نصف مليون دولار لرجل الأعمال الروسي الشهير ميخائيل فريدمان وهو أكثر من اقتنى لوحات معلمي.

مدة المعرض كانت ثلاثة أيام بيعت فيها جميع لوحات أستاذي، قرأت في ملامح الأستاذ طه لمحة الحزن أثناء بيع لوحته (ظل أنثى) لأعرف أن خلف هذه الملامح قصة تستحق أن تروى..!

انتهى المعرض وجلست يومين في برلين لأعاود ذكرى زيارتي الأولى لها عندما عرضت اختراعي على شركة BMW التي قبلته بمبلغ
ارضاني جدا..!

اتصل بي الأستاذ طه بعد يومين من انتهاء معرضه ليطلب مني الحضور إلى منزله لأحضر حفلة نجاح بيع لوحاته.
تفاجأت بالحضور العشرة الذين حضروا بعد أن رسمت في مخيلتي عددا لا يقل عن خمسين شخصا.

قدمني أستاذي لهؤلاء العشرة بأنني تلميذه الأول الذي احترف الفن التشكيلي بين يديه، خجلت من إطرائه لي، ومن تعليق أحد الحضور بأنني فنان محظوظ..!

جلست معهم على طاولة دائرية في منتصفها تمثال لجائرة ايطاليا للإبداع التشكيلي قد نالها أستاذي قبل افتتاح معرضه بأسبوع.

كان الحديث حول تأسيس منظمة عالمية للفنانين التشكيلين، على أن يكون أعضائها المؤسسون من يجلس حول هذه الطاولة.
وقعت معهم ميثاق التأسيس لأمثل السعودية في هذه المنظمة وأستاذي يمثل مصر والعشرة الآخرون كانوا يمثلون عشر دول حول العالم.

انتهى الإجتماع بعد أن تم إعلان برلين مقرا رئيسيا للمنظمة.

خرجوا الحضور وبقيت مع أستاذي، لنتبادل معا ذكريات تعليمه لي الفن التشكيلي عندما كنت أدرس البكالوريوس في جامعة موسكو الروسية.
تذكرت لوحته التي بيعت لرجل الأعمال الروسي (ظل أنثى)، لأسأله عن الحزن الذي اجتاحه بعد أن بيعت.

خرجنا من صالة الإجتماعات الكبيرة وتوجهنا إلى مكتبه الخاص في هذا القصر الفخم الذي يملكه.
جلست على الكرسي الذي عن يساره لأسأله عن سبب اختياره لإسم (ظل أنثى)..!

- اييييه يا محمد خلّيها على ربنا.. مرّيت بظروف نفسية سيئة جدا بعد أن توفيت زوجتي عائشة.. ايييييه يا محمد هو انتَ عارف أسوأ حاجة في الكون ده ايييه..؟
- الّي بعرفه يا عم طه الفراق والحزن.
- يا سلام عليك يا محمد مثل ما كنت زمان باقي نبيه وذكي..
- ربنا يحفظك لنا يا عم طه..
- متخيّل معاي يا محمد أربعين سنة وأنا وهي مع بعض على طول.. عشت معاها أجمل سنين عمري.. ايييييه الله يرحمها أم أحمد.
- الله يرحمها.. بس في حاجة يا عم طه ماعرفتهاش في اللوحة.. توقيعك كان له نمط جديد مختلف عليّ كثير..!
- يا محمد بلاش عبط..! هو انتَ نسيت اللوحة الي اديتهالك لمن دخلت انتَ معرضي في موسكو وتفسيرك الوحيد إلي جبته تمام التمام.. فاكر..!
- هههههه هو أنا بنسى أغلى لوحة أهديتهالي يا عم طه.. بصراحة أنا خجلت لمن نزلتها واديتهالي وانتَ بتضحك وبتقول: أهو أخيرا لقيت واحد دماغه زي دماغي.
- أكثر من واحد جاء وفسّرها غلط وتفسيرك ليها كان هو الي في دماغي بالتمام..
- كانت أيام حلوه يا عم طه.
- هو ده الزمن يا بني.. الاّ ما أولتليش هو انتَ النهرده بتعمل ايه..؟
- بحاول اني أكون مهندس ناجح.
- والرسم أخباره ايه معاك..؟

طرقت رأسي خجلا من أن يغضب عليّ : اعتزلته..!

وكما توقعت تماما وكأنني طرقت رأسه بمطرقة، ليقول ساخرا: هو انتَ لاعب كورة وإلا مطرب وإلا ممثل وإلا إيه بالضبط..؟
- بصراحة يا عم طه.. صرت بكره الرسم وسيرته..!

- أكيد فيه حكاية كبيرة مخبّيها عليّ يا محمد.. قول وماتخفش لإن الدبّاسة دي عاوزة دماغك.. هو فيه حاجة يا محمد مضايقاك ..؟
- حاجات كثير.. لكن يا عم طه وبصراحة يعني أنا أشوف إنك بتتهرب من سؤالي..!

- سؤال إيه.. آآآآه اللووووحة.. طيب طيب أنا ححكيها لك.. بس توعدني تقولي حكايتك إيه.. اتفقنا..!
- اتفقنا..!

- كان يا مكان...
- يا عم طه..؟؟؟؟
- طيب بلاش كان يا مكان.. بعد ما رجعنا لمصر من روسيا.. طبعا أنا قلت لك قبل كذا عن سبب روحتي لروسيا والثمان سنين الي قضيتهم هناك..؟
- ايوه ايوه..
- تمام.. جلست في مصر ثلاث سنين، كانت من أسوأ سنين عمري، مات فيها أخويَ محمود وابني عبدالوهّاب في حادثة عربية(سيارة)، وبعدهم بكم شهر مرضت زوجتي أم أحمد بالسرطان وجينا لهنا لبرلين علشان تتعالج أم أحمد، واشتريت البيت ده حتى نكون قريبين من المستشفى، جلسنا هنا خمس شهور، وتوفّت أم أحمد، وما بقاليش في الدنيا دي غير بنتي هدى.. أحمد مات وهو صغيّر وبعده أخته شيماء وبعدهم أخويّ وعبدالوهّاب وأم أحمد...!

نزلت دموع أستاذي المليئة باللهب الحارق، وأنا مطرقا رأسي آسفا على رحيل أرواح معلمي الخمسة..

أكمل حديثه بعد أن غصّت الكلمات في حلقه لتخرج: والنهرده منتظر الموت إمتى حيجي ويآخذ روحي..
- بعد عمرٍ طويل يا عم طه..
- عمر إيه يا محمد هو بقى في عمري حاجه.. عجوز خرفان عمره تعدّى الستين.. لكن ما بقدرش أقول غير الحمدلله على قضاءه وقدره..
- الحمدلله على كل حال.
- إلا إنتَ حكايتك إيه يا بشمهندس..!
- قبل ما أقولك حكايتي.. انتَ كنت راضي عن المبلغ الي ابتاعت فيه اللوحة..
- بصراحة ماكنتش ناوي أبيعها، لكن بنتي هدى أصرّت عليّ إني أبيعها او أحرقها أو أقطّعها أو أعمل فيها أي حاجة..!
- وليه؟
- انطويت في المرسم وجلست فيه شهر كامل ومابخرقش منه وصحتي تدهورت إلين ماطحت مغمى عليّ، جابت هدى الدكتور ووصّاها إنّي ماروحش المرسم ثاني أبدا.. جلست في السرير أسبوعين وقمت منه على المرسم بعد أن ترجّيت هدى بس أخلص اللوحة دي.. لكنّها مارضيتش وكمّلتها عنّي..
- أيوه عرفت السبب ليش نمط توقيعك مختلف..! وفيه جزء واضح إنه في حد ثاني كمّلها.
- برضوه حقولها تاني دماغك زي دماغي..
- ههههههه يا عم طه هو فيه مقارنة بين دماغي ودماغك..!
- يخلق من الشبه أربعين..!
- الشكل مش الدماغ..!
- لا وحتى الدماغ..!
- خلاص الدماغ الدماغ هو أنا أقد أراددك يا عم طه..!
- انتَ ابني يا محمد وزيّك زي أحمد وعبدالوهّاب وشيماء وهدى..!

نطقت معاتبا إياه مقارنتي بالإناث: ممكن أحمد وعبدالوهّاب أيوه أمّا شيماء وهدى، فحاجة صعبة شويه..!
ضحك منّي ليقول: نسيت إن عندكم إنتم يالخليجين مافيش مقارنة أو مساواة أبدا بين الذكور والإناث.. لكن بصراحة البنات هم جواهر الدنيا..!

لأرد ساخرا: وهمّ كمان أكبر مصائب الدنيا..!
- بصراحة في ديه معاك حق يا محمد.. بس برضوه بيبقوا جواهر..!
- جواهر.. جواهر..!

حكيت لمعلمي عن سبب هجراني للرسم ولم يقتنع بأقاويلي التي كنت أكذب عليه بها..

رجعت إلى السعودية ولم يمضي شهرين حتى اتصلت عليّ ابنته هدى لتبلغني بوفاة أستاذي الأستاذ طه الصعيدي الذي له الفضل بعد الإله بأن وجّهني لأحترف الرسم على يديه، حضرت مراسم الدفن في برلين بعد ان أوصى قبل وفاته بأن يتم انتظاري إلى أن آتي.

استدعاني المحامي الخاص بمعلمي مع هدى لنحضر فتح الوصية.

كان رحمه الله قد كتب في وصيته هذه العبارة فقط:

"يا محمد: إنتَ..أنا  وهدى: بنتي..بنتك   وعيني..عينك   ودماغك..دماغي"

فهمت عبارته التي تعني :
"إنت..أنا" .. بألا أترك الرسم.
"هدى: بنتي..بنتك" .. أهتم بشؤونها.
" عيني..عينك" .. أن أصبر على لهب الدموع.
"دماغي..دماغك" .. أن أدير أملاكه وأكمل مسيرته.

تقدمت مباشرة لهدى وأمام المحامي لأطلب يدها على سنة الله ورسوله.. كانت أذكى منّي أيضا لتقول وهي تمسح دموعها: مافيش حد في الدنيا ممكن أبويَ بيأتمنّي عليه غيرك..

تزوجت هدى التي كانت في التاسعة عشر من عمرها، وأنجبت لي ابني (طه) الذي اسميته تخليدا لذكرى معلمي (طه).
وسأسعى جاهدا بإذن الله لأن يكون (دماغ طه زي دماغ طه).


هناك تعليقان (2) :

فهد سلمان الفراج يقول...

صدقاً نادراً ماأقرأ تدوينات الآخرين كاملة خاصة إذا لم تكن تلامس القضايا الإجتماعية التي أهتم بها لكن أمام هذه التدوينة وجدت نفسي ومخيلتي تنساق خلف الكلمات والمعاني تلقائياً ولا أخفي أنني تأثرت كثيراً وأعجبني أسلوب عرضك لقصتك مع أستاذك رحمه الله وفي الحقيقة أعتقد أنك يمكن أن تكون روائي مبدع ممستقبلاً...سُعدت بزيارتك مدونتي وإشتراكك فيها وسُعدت أكثر وتشرفت بالاطلاع على مدونتك التي يكفيها جمالاً وروعة هذه التدوينة المؤثرة والتي هي أشبه بخيال شاعر...أتمنى لك وللأخت هدى حياة سعيدة وتقبل خالص تحياتي وصادق مودتي,,,

محمد متنبك يقول...

سيدي..
سعدت جدا بمروركم الكريم على مدونتي.. وزادني الشرف بتعليقك على هذه التدوينة، ولكن للإيضاح ياسيدي تلك التدوينة من نسج الخيال ولا تمت للواقع بصلة.. وهي محاولة بسيطة لتكوين مجموعة قصصية تحاكي الواقع كثيرا، عن طريق تقمصّي لشخصية الراوي في القصة وإن كنت تعمدت لإيراد اسم الراوي بإسم محمد..!

أشكر الإله بأن أرشدني إلى مدونتك والتي لولاها لما عرفت كيف أراسل فهد بن سلمان الفراج.
أتمنى أن نكون على اتصال دائم وسيكون لي السعد بأن أستمع لتوجيهاتكم حفظكم الله..

لكم مودتي ياسيدي.